لا أحد يعرف كيف أنفجر البركان الفلسطيني في ديسمبر عام 1987 مخرج حممه بكل غزارة في وجه كل جنود الاحتلال الاسرائيليين في الضفة الغربية قطاع غزة فيما عرف بإسم انتفاضة الحجر الفلسطيني.
في تلك الفترة كنت في الحادية عشر من عمري لم أكن ادرك ما الذي يحدث وما الذي حدث كل ما كنت ادركه هو قذف جنود الاحتلال بالحجارة وأن الشعب كله غاية في الغضب من الاحتلال من القمع الاسرائيلي من كل شيء .
وكغيري من اطفال الحجارة في حينه كنت أخرج مع اطفال الحارة نلقى الحجارة على جنود الاحتلال , نشعل النيران في اطارات السيارات ونغلق الشوارع ونعلق الاعلام الفلسطينية على اسلاك الكهرباء ، كان العلم بالنسبة لنا يمثل كل شيء في حياتنا حاضرنا ومستقبلنا وكم من شاب سقط شهيداً ليرفع العلم الفلسطيني منهم من سقط برصاص الجنود الذين كانوا لا يطيقوا رؤية العلم الفلسطيني ومنهم من مات مصعوقاً بالكهرباء اذ كان بعض الشبان يتسلقون أعمدة الكهرباء لتعليق العلم الفلسطيني عليه بطريقة مناسبة تجعله خفاقاً دائماً.
وكوني كنت من اطفال الحجارة التي لم يسلم الاحتلال منها ابداً لم اسلم أنا ايضاً من رصاصهم واعتقالهم ، فاعتقلت أول مرة وأنا في الثالثة عشر من عمري لا اتذكر التاريخ بالتحديد ولكني اتذكر كيف طاردنا جنود الاحتلال بحجارتنا ونحن عائدين من مدارسنا وكيف طاردونا وطاردوني تحديداً الي أن اعتقلوني ، كان يوما ً عادياً في اوله ولكنه تحول الي يوم مرعب اذ انهينا يومنا الدراسي في المدرسة وخرج جموع الطلبة ككل يوم ننتظر مرور اي سيارة جيب عسكرية تابعة للجيش الاسرائيلي او سيارة من سيارات المستوطنين لنرشقها بحجارتنا وما هي الا دقائق من الانتظار فمر بعدها جيبان للجيش الاسرائيلي أمطرناهم بحجارتنا فتوقفوا ونزلوا يركضون خلفنا وهم يطلقون الرصاص وقنابل الغاز المسيل للدموع فهربنا بالطبع كل واحد منا في مكان متفرقين أحتميت انا في احد المنازل وما أن دخلته دخل الجنود خلفي اذ رؤوني وانا داخل فركضت في الجهة الأخرى من المنزل وقفزت عن السور الذي يطل على شارع أخر واخذت اركض وبالطبع اتبعوني الجنود قافزين خلفي عن السور وأخذوا يركضون خلفي وهم يصرخون علي قف قف لما أعير اهتمام لصراخهم واخذت اركض وحين اقتربت من نهاية الشارع وتهيأت للالتفاف في شارع اخر لأتواري عن الانظار ، اطلق الجنود علية رصاصة واحدة فخفت ووقفت .وما هي الا ثواني حتى وصل الجنديين إلي فحملوني كلاً من قدم وأخذوني الي سيارة الجيب التي كنا نطلق عليها في قطاع غزة اسم "البور" .
في "البور" عاملوني معاملة استغربت منها لم اتوقعها ابداً وقد كنت أرى من قبل كيف كانوا يلقون الشبان والأطفال في البور رميا ً ثم يدسون عليهم باقدامهم وكانوا طوال الطريق يضربونهم ركلاً بالاقدام أو بالهروات ، أما أنا فكانت المعاملة بالنسبة لي مختلفة لقد اجلسوني على الكرسي دون ان يضربني احد منهم وغير ذلك ألبسوني الطاقية الواقية للرأس " الخوذة " حتى لا يصيبني اي اذى جراء الاحجارة التي يمطرها الاطفال والشبان عليهم طوال الطريق الؤدي الي مقر المجلس التشريعي في قطاع غزة حالياً وسابقاً وقد كان يحمل نفس الاسم في السابق منذ ايام الحكم المصري للقطاع اذ شكل المصريين مجلساً تشريعياً لاهل قطاع غزة وبنوا له المقر الذي احتجزت فيه .
في المجلس التشريعي وجدت 14 عشر طفلاً محتجزين مثلي كان اصغرنا واسمه محمد في الصف السادس وكنت انا في الصف السابع ( الاول الاعدادي ) هناك تناوب الجنود علينا واحد تلو الأخر أما يضربونا أو يسألونا كان ضربهم صفعا ً على وجوهنا بالكف أو ركلاً بالاقدام وكانوا يسألونا عن اسماءنا ومكان سكن كل واحد منا لم يسألونا ان كنا رشقناهم بالحجارة أم لا هذا الأمر يبدو ليس مهم بالنسبة لهم المهم هو أن لديهم بضع اطفال يتسلون في ضربهم وأن يدفع ولي أمر كل طفل منا كفالة مقدارها 500 شيكل لكي يخرجونا .
في كل نصف ساعة كان يأتينا جندي ويسألنا اغلبهم كانوا لايجيدون العربية وكانوا يسألونا باللغة العبرية ، وكنت أنا و محمد من المحظوظين الي حد ما ففي الصف السابع بدأنا تعلم اللغة العبرية اذ كنت ادرس في مدرسة حكومية رغم أني لاجئ ولكنها كانت أقرب من مدارس وكالة الغوث الي بيتي وكنت اعرف ان اجيب عن مكان سكني واسمي باللغة العبرية ، ومحمد كان يتيما ً وكان يدرس في معهد الايتام ولذا تعلم العبرية من الصف الخامس بحسب ما هو متبع بالمعهد هناك ،بخلاف باقي الأطفال الذين لم يدرسوا العبرية اذ هم يدرسون في مدارس وكالة الغوث وهناك لا يدرسوا العبرية أو غير متفوقين في المدرسة سألوني إيفو اتا جار " وما شم خا اي اين تسكن وما اسمك ما ذكرني باللغة العبرية وحديثهم الينا هو محمد اذ كان عندما يتحدث العبرية يتحدث بسرعة وبتحريف بعض الكلمات العربية بطريقة مضحكة وكان كلما اتى جندي يسألنا كان يقول له ( لما أني بو أني بيت تونيم بعزة شارع الوخدة ) أي كان يسألهم لماذا أنا هنا انا من بيت الايتام بغزة شارع الوحدة وكان الجنود كلما قال هذه الجملة التي يبدو أنه لا يعرف غيرها يضحكون ويضحكون لخلطه بين اللغة العربية والعبرية اذ كان يقول " شارع الوخدة " بالعربية مع تغير حرف الحاء الي الخاء لتبدو كالعبرية وكانت كلمة شارع بالعربية كما هي .
بقينا على هذا الحال ساعات حتى اتى المساء فأتانا أحد الجنود وصفنا في طابور واخذ يحدثنا ويتصرف على أنه ظابط كبير يلقي بتعليماته على جنود تحت امرته .
من كل الكلام الذي قاله لا اتذكر شيء سوى خيارته التي عرضها علينا اذ قال لنا أما أن تقوموا بتنظيف المجلس التشريعي كله أو يدفع اولياء أمورنا مبلغ الكفالة ال500 شيكل فوافقنا على الفور بتنظيف مقر المجلس التشريعي ، ولكن لسوء حظنا عرضه هذا كان متأخراً اذ كان الليل قد عم المكان ورفض هو أن نقوم بهذه المهمة مساءا ً وقال لنا انتظروا الي الصباح وبالطبع مالنا خيار غير الانتظار ، واخذ النعاس يغلب علينا فنمنا في الغرفة التي وضعونا فيها وما هي بغرفة بل كانت استراحة أو محطة اذ لم يكن لها باب وكانت جرانها تشكل متوازي مستطيلات ينقصه مستطيل يعتبر هو الباب ، نمنا على مقاعد خشبية تشبه الموجودة في الحدائق أو المستشفيات مقاعد طويلة نمنا عليها دون غطاء وكان الجو دافئا ً الي حد ما ولكن لا شك أن ساعات الصباح الأولى تكون باردة فاستيقظنا من نومنا جميعاً مبكراً ، وجاء لنا رجل عربي كبير في العمر كان يبدو أنه في العقد السادس من عمره وكان يعمل هناك كعامل نظافة قال لنا هيا يا ابنائي نقوم بتنظيف المكان فخرجنا معه ،كانت الارض مليئة بالأوساخ في كل مكان وكانت ايضاً مليئة بالرصاص في بادئ الأمر فكرت أن اخذ كمية من الرصاص اخبيها في بنطالي ولكني خفت كغيري من الاطفال وخصوصاً بعد تحذير الرجل العربي لنا من أن اخذ الرصاص تهمة كبيرة قد تتسبب في سجننا سنوات طويلة .
أثناء تنظيفنا للمكان وصلنا انا وزميل لي من الاطفال الي خيمة قررنا أن ندخلها لننظفها عملاً بتعليمات الرجل العربي وخوفاً من تهديدات الجندي الذي امرنا بتنظيف المكان دون استثناء وما أن دخلنها رأينا جندي ومجندة ينامون بجوار بعضهم البعض وقد جردوا انفسهم من ملابسهم على ما ظننت اذ كان الغطاء يغطي جسمهم السفلي وأما الجزء العلوي فقد كان ظاهراً وكانوا عراة ، عندما دخلنا استيقظ الجندي على صوت خطانا أو أنه كان مستيقظاً وما أن رأنا صرخ بنا لنخرج فخرجنا خائفين من علامات الغضب التي بدت ظاهرة على وجهه .
أنتصف النهار ومع انتصافه كنا قد امضينا 24 ساعة محجوزين في مركز المجلس التشريعي وكنا قد أنهينا تنظيف المكان وبانتظار أن يطلقوا سراحنا كما وعدنا الجندي وبدأت أنا افكر بأهلي هل عرفوا أين أنا ؟ ترى هل اخبرهم أحد أن الجيش اعتقلني ؟ وماذا فعلت والدتي لا شك أنها غاية في القلق علي ؟ . حقيبتي المدرسية القيتها خلفى وانا اركض ترى هل سأجدها مكانها في منتصف اشجار الخروع التي كانت نامية بالقرب من قطعة ارض غير مسورة ومهجورة؟ هكذا بدأت اتهيئ لاستعيد حياتي الطبيعية اليومية من خلال تفكيري هذا وفجأة ودون مقدمات جاءنا جندي وقال لنا هيا اخرجوا "لخ لبيتك " اذهبوا الي بيوتكم فمشينا وكان الجندي الذي لم يصطحبنا الي البوابة كان قد اشترط علينا الا ننظر الي الخلف فسرنا حتى وصلنا البوابة وكان هو في تلك اللحظة واقف ينظر الينا من بعيد اذ رأيته عندما استدرت أكلم الجندي حارس البوابة وكنت اخشى أن يمنعنا من الخروج خصوصاً ان الجندي لم يصطحبنا ولكنه لم يفعل اذ كان على علم مسبق بخروجنا ففتح لنا البوابة وخرجنا وخرجت أنا لا ادري اين اذهب وفي اي طريق امشي المسافة الطويلة من المجلس التشريعي الي بيتنا اذ هي حوالي 2 كيلومتر ، ولم يكن معي نقود لأركب تكسي وخجلت أن اركب في تاكسي على أن يدفع له والدي الاجرة عندما اصل الي البيت فأتخذت قراري على المسير وبدأت أمشي .
في الطريق الي البيت كانت الاسئلة التي سألتها لنفسي قبيل اطلاق سراحنا قد غزت تفكيري مرة أخرى فقررت أنا اسير في طريق المدرسة حتى استرد حقيبتي المدرسية التي القيتها هناك وكنت اتوقع أن اجدها كما هي كون الشارع غير مزدحم بالمارة وكوني القيتها في مكان مهجور .،
وصلت الي المكان الذي اعتقلت فيه واخذت ابحث عن الحقيبة فلم اجدها ، حزنت كثيراً بلاشك على الحقيبة اذ سأضطر لاعادة كتابة كل ما أخذنا في المدرسة طوال الايام التي درسناها سابقاً ولكن بالطبع ما باليد حيلة وما علية الا ان اعود للبيت فسرت الي أن وصلت الي البيت وكان باب البيت مفتوحاً دخلت واذ بأمي تجلس في صالون البيت وما أن رأيتها أخذت بالبكاء فقامت امي مسرعة تقبلني وتقول لي الحمد لله على السلامة سالتها هل كنتوا تعرفون أين انا طول تلك الفترة فقالت أمي نعم لقد بلغنا ابن الجيران اذ رآهم وهم يعتقلوك واحضر حقيبتك التي القيتها وأنت تركض ، وانا اتيت الي المجلس التشريعي ورأيتك من بعيد ولكنك لم تراني وقد منعوعنا أنا و النسوة من رؤيتكم ولم يسمحوا لنا بأخذكم فابتسمت وتذكرت أنني رأيت إمرأة من بعيد تنظر الي وشعرت بانها امي ولكني لم اميزها .
*قريباً اعتقالي في المرة الثانية والحكم علية في المحكمة العسكرية
أخي القطب اليساري
ردحذفذكريات مؤلمة اليس كذلك لكنك هذه المرة كنت صغير جدا ولم تتعرض للكثير
الله لطف فيك لا أعلم المرة القادمة هل كانت أشد عليك سننتظر ونرى
اخي اتمنى من كل قلبي أن تأخذوا بثأركم وثأرنا جميعا من هذا الأحتلال
وبعدين بنتفرغ لنشوف شو صاير بغزة احنا عملنا العكس قعدنا نصفي حساباتنا
وتركنا العدو يلعب فينا
ننتظر باقي الحلقات يا القطب اليساري والله ولي التوفيق
كان الله في عونك وعون كل الاشقاء الفلسطنيين
ردحذف