الخميس، 13 ديسمبر 2007

من ذكرياتي في انتفاضة الحجر ( الحلقة الثانية )

بقي شهر ونصف لأتمم العام الرابع عشر من عمري  وأبدأ بالخامس عشر  فاليوم هو   الثامن والعشرين من رمضان الموافق الأربعاء  1/4/1992 يوم لا يمكن لي أن أنساه  كان يوماً  عادياً  لا جديد فيه كالايام الثلاثة السابقة له  فمنذ ثلاثة ايام توقفنا عن الذهاب الي المدرسة  بحجة ان العيد على الأبواب وأن عدد عدد الطلبة  الذين يذهبون الي المدرسة قليل فلا دروس جديدة ولا ما يحزنون ، لغيابنا عن المدارس في تلك الايام كان اليوم يبدو طويلاً  بالنسبة لي كصائم  فكنت كل يوم اذهب برفقة  ابن جيراننا " ابراهيم " الي ميناء غزة نجلس هناك عند حافة المينا  وندلي ارجلنا  نحو الماء ونبقى جالسين  نراقب الشمس  حتى تقترب من ملامسة سطح ماء البحر فنهم عائدين  الي البيت على دراجاتنا الهوائية  لنتناول طعام الافطار .


منذ أن توقفنا عن الذهاب الي المدرسة ونحن نكرر هذه الرحلة اليومية  ففي  حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً  نأخذ انا وابراهيم دراجاتنا الهوائية وننطلق بها نحو الميناء واليوم كذلك لم يتغير شيء  ، انتصف النهار فذهبت  الي ابراهيم لاصطحبه الي الميناء فوافق وركبنا دراجاتنا وسرنا  على غير عادة ببطئ الي جوار بعضنا البعض ، واثناء مسيرنا  مررنا بمجموعة من الملثمين يكتبون  شعارات تهنئة القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة  ( ق. و. م ) الشعب الفلسطيني  والامة العربية بحلول عيد الفطر السعيد ككل عيد وكل مناسبة  الأمر مألوف بالنسبة لنا ونحن ننظر للملثمين نظرة احترام كبيرة ونتمنى ان نكون منهم  ،  فبقينا سائرين دون توقف على بعد حوالي   300 متر استدرنا  في شارع آخر وما أن استدرنا رأينا  جيبات عسكرية للجيش الاسرائيلي كثيرة  على رأس الشارع الذي  استدرنا فيه  فتوقفنا أقل من دقيقة لمجرد رؤيتهم    وقررنا العودة حيث اتينا   ،  أثناء توقفنا  قلت  لابراهيم  : (ابراهيم    في خطر على الملثمين يجب  تحذيرهم وبسرعة من وجود الجيش وأكيد  هم أتوا لعلمهم بوجود الملثمين)  .


قال ابراهيم نعم يجب تحذيرهم  فالجيش بأقل من 5 دقائق  يستطيع ان يلقى القبض عليهم او أن يقتلهم بالرصاص  اذ كانت اوامر قيادة الجيش الاسرائيلي  للجنود بأن يطلقوا النار على كل ملثم لمجرد رؤيته  ، وبسرعة  انطلقنا نحو الملثمين وما أن وصلنا لهم  وبدأت احدثهم  عن وجود الجيش في الشارع التالي كان جيب الجيش الاسرائيلي يستدير من الشارع الذي كنا فيه   وشاهده الملثمين  فأنطلقنا جميعاً  هاربين كلاً  في مكان   بعضهم فر في البيوت القريبة  وهناك قام بستبدال ملابسه وخرج  وبعضهم فر في داخل مدرسة ابتدائية قريبة  وهناك خلعوا الملابس السوداء الخاصة  بالملثمين  وخرجوا منها فارين،  أنا وابراهيم  هربنا  على دراجاتنا  بسرعة أكبر واستطعنا ان نتوارى عن الانظار.


يبدو ان الجيش رأى الملثمين وهم يقفزون  داخل اسوار المدرسة اذ اتبعهم  على الفور واقتحم المدرسة.  في تلك الاثناء  وضعنا أنا وابراهيم دراجاتنا  جانباً  وبدأنا نرشق الجيش بالحجارة كان معنا بعض الفتية كنا نصرخ عليهم  بتحدي ببعض الكلمات العبرية التي تعلمناها  خلال أربع سنوات  من الانتفاضة سبقت هذا اليوم  كنا نقول لهم  ( تعزوف لنيشك فتجدلي بو  ) بمعنى ألقى سلاحك وتعالي لي هنا  كما كنا  نهتف ( نيشك شيلانو افانيم  ) بشكل متكرر وجميعنا بصوت واحد وتعني بالعربية سلاحنا حجارتنا  وكان بعض الفتية يشتموهم بكلمات نابية باللغة العبرية ربما لم يكونوا على علم بمعناها  ولكن أنا كنت اعرف معناها ولذا كنت اخجل ان ارددها حتى لو كانت لعدوي لا ادري لماذا ؟


بعد هذه المواجهة الخفيفة جداً   بيننا وبين الجيش والتي كانت عن بعد انسحب الجيش من المكان كله ولم يفلحوا باعتقال اي من الملثمين ، ورجعنا أنا وابراهيم  الي دراجاتنا فركبناها  ومشينا  .


لم نقطع مسافة طويلة حين قاطعني ابراهيم قائلاً  أنه لا يريد أن يذهب اليوم الي الميناء ، قال أن راسه بيوجعه ولا يريد الذهاب اليوم  ،  شعرت في لحظتها أن ابراهيم خائف من الجيش  وأن   مسألة الوجع الذي اصاب رأسه مجرد حجة فقلت له  لقد انسحب الجيش من المكان كله لا وجود للجيش الآن  وهيا نذهب  ، واخذت احثه على المجيء معي فرفض فقلت  له أوكي إن كنت تريد العودة الي البيت فاذهب أما أنا فسأذهب الي الميناء وحدي  ،  قلتها   وانا اشعر بانه لم يتركني وحدي وأنه سيتبعني  فور  رؤيته لي بأنني فعلاً  ذهبت ، ولكن خاب ظني  لم يفعل وتركني وحدي .


كنت مصراً  على ان اذهب الي الميناء وحدى على غير عادة  كان سبب اصراري هو أن اوصل رسالة الي ابراهيم بانني ذهبت ووحدي  وأنني لست مرتبط به متى يشاء نذهب ومتى لا يشاء لا نذهب فأنطلقت مسرعاً  كعادتي حين كنت أقود الدراجة  رغم أن جغرافية  الطريق كانت تعيق سرعتي   فالطريق معبد فوق تلة صغيرة وكنت انا في وضع الصعود الي قمة التلة   ( طلعة يعني بلهجتنا الغزاوية )، وما أن اقتربت من قمة الطلعة فاجئني جيب للجيش الاسرائيلي وجهاً لوجه على قمة الطلعة ولم استطيع رؤيته من بعد بسبب الطلعة فارتبكت واتجهت نحو الجانب الايسر من  الطريق  حاولت ان اتصرف بشكل طبيعي وكأني لم ارشقهم قبل دقائق بالحجارة  ولم اشتمهم أواتحداهم ولكنهم استطاعوا ان يميزوني  فما أن وصل الجيب بالقرب مني تماماً  صرخ الجنود من داخله زيه زيه زيه  أي هذا هذا  ، فتوقف الجيب على الفور ونزل منه جنديين  حملوني الي داخل الجيب وانطلق الجيب وبقيت دراجتي ملقاة في الشارع .


في الجيب  قام أحد الجنود بتقيد يدي وراء ظهري  بمربط بلاستيكي كالذي يتم فيه ربط خراطيم الوقود في محركات السيارات او خراطيم المياه ، وقام أخر بوضع عصبة على عيني ، ولم تكن العصبة شديدة الربط اذ نزلت عن عيني وصرت أستطيع مشاهدة شوارع المنطقة التي مشطها الجيش بحثاً  عن ملثمين  ، طوال تمشيط الجيش للشارع كنت أبحث في عيني عن اي شخص اعرفه ويعرفني لكي أشير له بأن يبلغ أهلي انني  في قبضة الجيش  ،  مر الجيب بالقرب من بيت عمي وهناك حاولت   وبدون حذر أن ارى اي من ابناء عمي أوأيٍ كان يعرفني ليبلغ أهلي بانني اعتقلت ولكن للاسف بدون جدوي ، ونتيجة لعدم حذري اكتشف الجندي المقابل لي تماماً  بأن العصابة التي وضعها على عيني بدون جدوى ففتح كيس كان به الزي الخاص بالملثمين الذي صادروه من داخل المدرسة حين اقتحموها  وأخرج منه " بلوزة "(تيشيرت   سوداء من زي الملثمين وقام بربطها حول رأسي  وبعدها لم استطيع الرؤية  .


بسرعة أنتهى الجيب من تمشيط المنطقة بحثاً  عن الملثمين ولم يجد أي ٍ منهم اذ لم يستغرق ذلك أكثر من نصف ساعة ، وبعدها انطلق نحو مبنى المجلس التشريعي  في قطاع غزة  والذي اعتقلت فيه أول مرة قبل عامين ولمدة يوم ولكن هذه المرة تختلف  اذ كنت وحدى ولم يكن هناك اطفال مثلي  تم اعتقالهم وهم في طريق العودة أو الذهاب من والي المدرسة  لعدم انتظام الدراسة في ذلك اليوم  كما انهم لم يضعوني هذه المرة في الغرفة التي تشبه محطة انتظار الباصات  بل وضعوني داخل أحد الحمامات  وكانت صغيرأ جداً  حوالي متر × متر ونصف أو أقل  وكان الكرسي المخصص لقضاء الحاجة يشغل مؤخرته.


بقيت في الحمام الساعات التي سبقت اذان المغرب  وبعض ساعات من الليل  ، وبين الفينة والأخرى كان يأتي بعض الجنود للحمام ليتبولوا فكانوا يفاجئون بي فيصرخون في وجهي ويضربوني ثم يخرجوا يبحثون عن حمام آخر ، وفي احد المرات حضر أحد الظباط  ، هذا  لم يأتي لقضاء الحاجة كالذين سبقوه  ولكنه أتى ليحقق معي . وعندما دخل شاهد " البلوزة السوداء التي تلف رأسي فقام بحلها وعاينها  ثم  أخذ يكتب في الأوراق التي بحوزته   ، ثم سألني عن اسمي ومكان سكني وبياناتي الشخصية وبعدها أعاد ربطها على رأسي وذهب  ، تكرر ذلك مرتين ، فأدركت خطورة بلوزة الملثمين التي تلف رأسي وبدأت افكر بطريقة استطيع فيها أن أتخلص منها  ،  وأنا مقيد اليدين وراء ظهري وبالفعل استطعت ان اتخلص منها عندما وضعت رأسي بين  ركبتي ، وأطبقتهما على حافة البلوزة العلوية المتدلية  ثم سحبت رأسي من بين ركبتي المنطبقتين عليه للخلف  ، كررت العملية من 4 الي 5 مرات الي ان استطعت ان اتخلص من البلوزة   السوداء الخاصة بالملثمين وبدأت أنشط من ذي قبل  اذ الآن استطيع التنفس بحرية اكبر وإن كان الهواء مختلط بالروائح الكريهة .


بقيت في الحمام حوالي 8 ساعات   لم  يقدموا لي خلالها الا وجبات من الضرب والإهانات والشتائم  ولم اتذوق الطعام أو الشراب منذ سحور امس  وفي حوالي الساعة العاشرة ليلاً  جاء أحد الجنود ومسكني من قبة قميصي وسحبني الي جيب عسكري كان ينتظرنا  على بعد حوالي  5 أمتار لم يعير الجندي اي اهتمام لكوني غير معصب العينين ويبدو أنه لم يرى  البلوزة السوداء التي كانت تلف رأسي بالحمام لحسن حظي  حيث لم يتحدث معي بكلمة واحد .


عند الجيب شاهدت 4 شبان  معتقلين مثلي وكانوا مقيدين  بأيديهم من وراء ظهورهم مثلي ولكنهم كانوا معصبين العيون .


أمر الجندي الشبان بالصعود الي الجيب  ومسك كل واحد منهم من ذراعه بالقرب من كتفه  وادخلهم فيه  وجاء دوري وعندما مسكني الجندي لاصعد الي الجيب انتبه جندي اخر كان يقف بجوارنا الي انني غير معصب العينين فتحدث بهذا الشأن مع زميله ولكنهم على ما يبدو لم يهتموا كثيراً  بسبب تعجلهم وربما بسبب صغر سني ، اذ تركوني اصعد الي الجيب  الذي انطلق بسرعة  في عتمة الليل في الشوارع  التي تخلو من السيارات او المارة بسبب منع التجول الليلي الذي كان يبدأ الساعة الثامنة مساءاً  الي مجمع انصار 3 في مدينة  غزة  ،  لأبدأ فصل جديد من فصول المعاناة في زنازين التحقيق*


* قريباً  في أقبية التحقيق 


لمشاهدة الحلقة الأولى إضغط هنا      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق